شجرة الياسمين..

2010/06/02 at 11:43 م (حكايا لا ترويها شهرزاد)

                   


هب  كمال من نومه فزعا لاهثا كمن جرى مسافة طويلة .
العرق يبلل ثيابه و بدا و كأن مسامات جلده قد نضحت كل مياه جسده النحيل .
شرب كوب الماء الموضوع إلى جانب السرير و عاد إلى الاستلقاء .
لا يزال صوت المعول الذي حفر فيه في الحلم ذلك القبر الرهيب يدوي في أذنيه و يترك صداه في نبضات قلبه.
قبر كبير حفره ثم سجى فيه جسدا وراح يلقي بالتراب فوقه حتى غطاه ..
جسد له عينان مفتوحتان ، في وجه شاحب بدا له .... مألوفا ؟
 
هز رأسه ليطرد بقايا الرؤيا المشؤومة ، و نهض قليلا فأزاح الستارة ليفتح نافذة عريضة تعلو سريره .
اقتحمت الفضاء عروق خضراء لشجرة ياسمين عابثة تطاولت و امتدت من حديقة المنزل حتى وصلت إلى نافذته ودخلت مع نسيم الليل المحتضر مصحوبة  بنور بدر يحتجب ساهما وراء غيوم الخريف الشفافة .
 
تسرب إلى حواسه شيئا فشيئا عطر الياسمين ..
أحس بجسده ثقيلا و كأن شللا قد حل به فجأة .
و تداعت إلى ذهنه صور مشتتة لتصبح تواردا عبثيا لصور من الطفولة المبكرة إلى جانب صور أولاده الثلاثة ..
صور من عهد الدراسة و صور من طفولة أبناءه ..
صور لا تنسيق بينها ، مشوشة ، غامضة ، تراءت له كأطياف بعيدة بعيدة .. كأنها ذكريات رجل آخر لا يخصه و لا يهمه أمره .
من بين الصور المهتزة برزت صورة  سارة ..
واضحة جلية كأنه يراها من خلال عدسة مكبرة ..
صورتها كما رآها أول مرة ، بثوبها الأزرق السماوي  ، منحنية باهتمام  تبحث في حديقة الجامعة عن قلم سقط و توارى بين الأعشاب ، الدم تدفق إلى خديها و هي تبحث عن قلمها لاهية عن عينه التي تتفحصها باهتمام .
 
حاول أن يتذكر عدد السنوات التي تفصله عن هذا المشهد ..
كم سنة مرت ؟ عشر سنوات ؟ خمسة عشر ؟ عشرون ؟
خمس وعشرون ..
فاجأه الرقم .. و فاجأته الذكرى .. و لكن ما فاجأه أكثر كان الحنين .
 
ترى .. أين هي الآن ؟
لا شك أنها قد تزوجت .. و ربما رحلت و ربما و ربما ..
تعمده في قطع كل صلة بها قد أفلح و أتى بنتائجه التي أراد
ليس هناك أي خيط يصلها به .. و لا منفذ تصله منه أخبارها
قد انتصر على مشاعره تدريجيا حتى غافلها يوما و اقتلعها من جذورها .
فلماذا عادت إلى الظهور الآن ؟
 
تقلب في فراشه بحدة ليبتعد بفكره عن الموضوع
حاول التفكير في أشياء أخرى .. في عمله الناجح .. في أسرته المتكاملة .. في الطموحات الصعبة التي حققها ..
في المركز الهام الذي وصل إليه .. في الأموال الطائلة التي جمعها .
قد أصبح الرجل الذي أراد أن يكونه .. رجلا .. قويا .
 
أكثر ما يكرهه في حياته هو .. الضعف
يكرهه في الأشخاص ، و في الأشياء .
ما كان ليسمح له أن يتوطن فيه .
و حبه لها كان يقيده بخيوط حريرية ..
يأخذه من العالم الحقيقي إلى عالم خيالي .. جميل .. لكنه مستحيل .
لا يلائم هذا العالم . لا يلائم حلبة الصراع على القوة .
عالم لو استسلم لمغرياته لانتزع من داخله كل الأسلحة التي كان عليه أن يوجدها و يقويها ليصل إلى ما هو فيه الآن ..
نعم .. كان القرار حكيما .
قاس ربما ، صعب طبعا ، لكنه حكيم بكل تأكيد .
فلولاه لما كان هو .. كمال الجراح .. أحد أبرز الوجوه الاقتصادية و الاجتماعية في بلده
و لما كانت زوجته الآن تمضي الصيف في أوروبا ..
 و لما كان أولاده يدرسون في أفضل الجامعات الأمريكية.
و لما شعر بلذة السلطة إلى هذه الدرجة .
و لما شعر بالقوة إلى هذه الدرجة .
و لما شعر ..
و لما شعر بالوحدة إلى هذه الدرجة  .
و لما شعر بالبرد ... إلى هذه الدرجة .
 
" أي جنون بي الليلة" ؟ قال بصوت مرتفع
و نهض من فراشه بقوة فأغلق الشباك بعنف .. طاردا الذكرى .. و الفكرة .. و العطر .
سقطت زهرة ياسمين من الشجرة المنفية و استقرت على الوسادة.
التقطتها أصابعه و حملها في راحته و راح يتأملها .
كم هي غضة ، كم هي شذية ، كم هي ... ضعيفة !
رفعها إلى شفتيه فلامستا البتلات الحريرية  ..
و اندفعت موجة كاسحة من عطر الياسمين ..
 اجتاحت حواسه كلها ... اخترقت شرايينه
 أوصلته إلى حالة من خدر غريب.
خدر هو حالة وسطى بين النوم و الغيبوبة ..
خدر ثارت فيه براكين فجرت جدران الذاكرة، و نبشت قبورها لتخرج ما دفنه فيها
طازجا كما كان أول مرة .. حيا .. كما كان أول مرة .
ينبض  صورة و رائحة و ملمسا و حركة ..
 
جلوسهما الدائم معا في قاعة المحاضرات ، على المقاعد الحجرية في حدائق الكلية ، في المكتبة ، على الأدراج.
انتظارها له بعينين ساهمتين مسمرتين إلى الباب بين ثرثرة الأصدقاء و ضحكهم المرتفع .
ابتسامة عينيها حين تراه و من ثم حملها لكتبها و افتراقها عن صحبها لتمشي إلى جواره صامتة كأنهما يكملان منذ النقطة التي افترقا فيها .
خصلة شعرها الطويل الملتفة على أصبعها حين تغرق في التفكير .
خجلها حين تصطدم يدها بيده صدفة و هروب عينيها من نظرة عينيه المتغيرة .
تعلق عينيها به حين يوصلها آخر النهار إلى الحافلة التي ستحملها إلى البيت .
و ..
نعومة خديها حين يحصرها بخبث بين جدارين ليقطف قبلة سريعة تشعل في أعصابه الحرائق
فخجلها .. و اختلاط بياض بشرتها النقي بلون وردي خفيف ..
تماما.. كبتلات زهرة الياسمين.
 
في الصباح التالي ..
صحا كمال من نومه ، لبس ثيابه مسرعا .. و توجه توا إلى حديقة منزله
و بفأس في يده .. انهال على شجرة الياسمين ..
نبضات قلبه تساير صوت الفأس و تدوي في أذنيه تاركة صدى يستمر و يستمر
ويستمر حتى التقى في مكان ما من ذاكرته بصوت ذلك المعول الذي شق به القبر في حلم الليلة الفائتة.
و في لحظة سقوط الشجرة المدوي على التراب مثيرة حولها عاصفة من غبار
استعاد كمال ملامح الوجه الذي أهال عليه التراب بيديه في الحلم
كانت الملامح .. ملامح وجهه هو .
 
 

أضف تعليق