وما زال في الوقت متسع..

2010/06/02 at 11:03 م (هطولات عمر آخر)

 

                                                               

 

“حين كنا نأكل الكرز صغاراً

كان الكبار يحذروننا من ابتلاع البذور

لأنها ستكبر حتى تخرج أغصان شجرة كرز من أفواهنا”

 

 قد أكون أخطأت عندما قصصت ضفيرتي وأزلت عن أصابعي آثار التلوين.

وربما كان علي ألا أستبدل قطع الحلوى بالنقود، ودفاتر الرسم ببطاقة الهوية.

نظارتي الرصينة لم تمنعني من البكاء..

وسلسلة المفاتيح لم تمنعني من الخوف من أشباح بيت فارغ..

لكنني لم أعد طفلة..

 

لم أعد أبلل شعري وملابسي كلما أغراني ماء..

ولكن لأنني لم أعد ألعب بالماء.

ولم أعد أسقط وأخدش ركبتي كلما ركضت..

ولكن لأنني لم أعد أركض..

لم أعد طفلة..

ولأنني لم أعد طفلة تعلمت قواعد الحياة..

تعلمت أن أصغي لمن يتحدثون بأدب وألا أسمح لصوت إحساسي بالارتفاع عن أصوات الكبار..

وتعلمت أن القلب يجب أن يتوارى خلف الستائر

وتحت المقاعد

وأن الرأس هو من يجب أن يترأس طاولة الطعام

ويستأثر بالأريكة الوثيرة في غرفة الجلوس..

وأن الثلاجة للماء والطعام ..

وربما للأعصاب والمشاعر

لكنها قطعاً ليست منتجعاً صيفياً للعبتي “هالة”

وفساتينها التي أخيطها بيدي الخرقاء..

 

تعلمت أخيراً أن السرير ليس لأحلام سندريلا

ولا لهروب ليلى من الذئب..

لكنه يصلح غالباً للأرق والنزف..

وغرس دموع جديدة على الوسادة كل حزن.

 

ولأنني كبرت صغرت الأماكن..

لم تعد تتسع الخزانة لعبثي بثياب أمي

لم أعد أستطيع الاختباء تحت السلم من الأربعين حرامي..

ولم يعد خاتمي الفيروزي يدخل إصبعي لأفركه ويظهر لي جني ضخم طيب القلب.

 

ولأنني كبرت تغيرت الأشياء..

لم تعد كتبي ملونة

لم تعد قوافل مؤن النمل تغريني بالمراقبة

لم أعد أجد وراء الستارة مسرحاً يتسع لغنائي: “لأجلك يا مدينة الصلاة..أصلي”..

لم أعد أغني..

ولم أعد أجد ما أقوله للنهر ..

حتى النهر صار عن يدي أبعد..

 

وقبل أن أدرك تحولت حياتي إلى قطع متساوية من الزمن

متشابهة كحبات كرز في صندوق خشبي صغير,

قد يكون بعضها أصغر أو أكبر،

ربما كان لونها أسطع أو أدكن

لكنها كلها متماثلة في النهاية..

بالمذاق نفسه والنكهة ذاتها..

 

ليلة أمس

هربت من سريري المزدحم بالبكاء..

 ركلت الرأس عن مكانه على الأريكة ونمت..

وحلمت..

بأني ألبس ثوبي الأبيض القصير

وخصلات شعري المجنونة هاربة من العقدة

وأصابعي بخاتمها الفيروزي ترسم على الجدار شجرة كرز كبيرة

بعناقيد حمراء وسوداء وصفراء..

رسمت الجذع ورسمت الأغصان والأوراق

وبدأت أرسم الكرز.. وأرسم .. وأرسم..

وكلما رسمت حبة كرز تنفر من الجدار ..

فأقطفها..

أبتلع البذرة وأرمي الثمرة..

وحين صرخت جدتي بدهشة من وراء نظارتها

ورفعت في وجهي سبابتها

صحوت من النوم.

 

اليوم

شعري يطول من جديد وسأضفره وأعقد فيه عقدة زرقاء

أصابعي ملوثة بمزيج من تلوين وشوكولا وعبث

النقود في جيبي تحولت بأعجوبة إلى قطع حلوى..

و”هالة” تنام مع ملابسها الجديدة في درج الثلاجة.

 

انكسرت نظارتي..

ضاعت سلسلة المفاتيح..

والبذرة تنتش في روحي.. وتكبر.. وتزهر .. وتثمر..

عناقيد الكرز الثلاثية تنبع من أغصانها

وكأنني مازلت أرسمها على جدران الأحلام..

ما زلت أبتلع بذور الكرز بين الحين والحين..

وأعرف

أن الأشجار الصغيرة آتية.

4 تعليقات

  1. الأوس said,

    وأتساءل: ترى … متى التقينا أول مرة؟
    أسأل نفسي السؤال ذاته منذ التقينا، غير أنني لم أصل بعد إلى جواب. وهل يهم ذلك بعد الآن؟ المهم … أننا التقينا.
    أشعر أحياناً وكأنني أعرفك منذ سنين، كأنني التقيتك في زمن ما … في مكان ما. ربما استقلينا الحافلة نفسها ذات يوم، وجلسنا على مقعدين متجاورين للحلم … أو ربما نكون قد التقينا في مقهى لا أرتاده عادة على طاولتين متقابلتين للخيبة … خيبة صديق ربما تأخر … وخيبة حبيبة لن تأتي. لعلني التقيتك في كتاب … أو ربما أثناء بحثي عن كتاب!!
    تمام، صديقي الذي أشاركه غرفته، توقف عن سؤالي عن الكتب التي اشتريها كل يوم، والتي أحاول إخفاء بعضها عنه. أعتقد أنه أصبح يدرك تماماً أنها إحدى نوبات جنوني أو حمتي والتي لن تزيدها أسئلته إلا سوءاً، لذا … آثر عدم السؤال. كأي وعكة صحية قد تصيبنا بين الحين والآخر، يحدث لي ان أصاب بحمى الكتابة وهذيانها. وبعد تجارب اختبرتها، أيقنت أنه لا سبيل إلى الشفاء منها سوى بالكتابة … تماماً كما كان المحموم يعالج بتدثيره بالعديد من الأغطية السميكة لتزول عنه الحمى!
    أتذكر أحياناً زوربا Zorba وقصته في الشفاء من الأشياء التي يشعر أنها تستعبده. كان يحب الكرز جداً، وقرر ذات يوم أن يشفى من ولعه بأن يأكل منه كثيراً حتى يتقيأه. بعد ذلك، أصبح يعامل الكرز كفاكهة عادية! تعجبني طريقته في الوصول بأحاسيسه إلى ضدها.
    أحاول أن أتجاهل الأعمال التي يجب علي إنجازها منذ أيام … محاضرة يجب أن ألقيها … رسالة ماجستير … وأشياء أخرى، ولكن … عبثاً. تستفزها الكتب التي اشتريتها مؤخراً في إحدى لحظات هذياني … ربما أصبحت تغار منها … وعلى الأرجح يئست مني هي الأخرى. أذكرها بمقطع من فيلم “مذكرات دراجة نارية Motorcycle Diaries”، الذي يحكي قصة أرنيستو غيفارا دي لا سيرنا Ernesto Guevara de la Serna قبل أن يصبح “تشي Che”، عندما أعرب لعائلته عن تصميمه على مرافقة صديقه ألبرتو غرانادو Alberto Granado في رحلة حول أمريكا اللاتينية. قال له والده: “بقي لديك فصل دراسي واحد وتصبح طبيباً!”.
    أجاب:”Y esto puedo espera!” (وذلك يمكنه أن ينتظر!).
    ربما كان ذلك أحد أسباب تعلقي بتشي غيفارا وبذلك الفيلم الذي يحكي بعضاً من قصة حياته، والذي لم أزل أعيد بعضاً من مقاطعه حتى حفظتها عن ظهر قلب. أشعر أن لدي شيئاً من جنونه وخيبته.
    أتذكر كل تلك السنين التي أضعتها بين كتابين … آخر كتاب قرأته … وأول كتاب بدأت بقراءته من جديد … وأشعر بالحسرة. سنوات أضعتها باسم الطب … وأخرى باسم الحب … وإذا بي لا أعرف نفسي.

    كانت تلك إحدى نوبات حمى الكتابة التي أصابتني منذ حوالي السنتين. واليوم … تعود الحمى ذاتها … معك … وبسببك. فكم أنا ممتن لك!

    وما زال في الوقت متسع … ياه! كم كنت بحاجة لمن يذكرني بهذه الحقيقة!

    من دون شمع

  2. basima said,

    لا تعرف نفسك؟
    أنا أحسدك على شجاعتك.
    على هذه القدرة الفائقة على الوقوف أمام مرآة
    والنظر في عين الحقيقة.

    أنا جبانة

    ترتعد فرائصي من كل ما يمكن أن يضعني في مواجهة المناطق الغضة في وجداني
    وأهرب بعيداً
    أهرب.. طويلاً.

    ما زالت “مذكرات الدراجة النارية” نائمة في خزانة الأفلام تنتظر لحظة شجاعة
    لكنني جبانة بامتياز.
    وما زال أنطوني كوين يدافع عن الأرملة الشابة ويلاطف الأرملة العجوز
    ويعدني برقصة شامخة لو أني نظرت في اتجاهه مرة أخرى
    لكنني أمعن في النظر إلى اتجاه آخر.

    تعلمت قبل وقت طويل
    من قلق قديم رافقني معظم عمري
    ومن نوبات هلع تهاجمني حتى لو بالغت في الضحك
    أن أخدر أعصابي بالأحلام الملونة
    وبفيروز تهدهد أوقاتي
    وترسلني إلى “ضيعة” هانئة تنبت من الخيال حال الطلب
    حيث الهدوء.. والسكون.. والطمأنينة.

    ولكن..
    يحدث أحياناً أن أغامر فأقف تحت الشلال
    وأترك للبرد أن يسلبني أنفاسي
    أضيع بإرادتي في عمق الغابة
    وأدور مع دوامة العاصفة
    أترك الجنون يتسلم قيادي
    ويرميني حيث يشاء..

    حيث يشاء.

    هذا ما يفعله بي تحريضك يا أوس

  3. الأوس said,

    هل يمكن أن أكون سعيداً أكثر؟!
    أسأل نفسي التي قضت أسبوعها كفراشة مزقت شرنقتها للتو وراحت تتنقل في أرجاء حقلك متنعمة برحيق أزهارك الندية … يأتيني الجواب سريعاً.
    إلّا أن السؤال الذي لم اكتشف إجابته إلا مؤخراً، هو: ما الذي يسعدني بهذا القدر؟!
    يجيبني ممدوح عدوان:
    ] الكتابة هي فرصة الكاتب في العودة إلى هذه الطفولة المنسية أو المختبئة. وهذا يعني في العمق أنه تواق إلى العودة إلى إنسانيته الأصلية، ولذلك كان ريلكه يقول: “للكتابة عند الرجل والمرأة هدف واحد … هو أن يصيرا كائنين بشريين”.
    فالكتابة ليست إلا لهواً يبدو بريئاً، ولكنه يهدف إلى إستعادة الضائع من إنسانيتنا[.
    وأتذكر فيروز … فإذا بي أكتشف أحد أسرار تعلقنا بها. فيروز التي أصرت على الطفولة والحب والجمال لتذكرنا بإنسانيتنا.
    أقرؤك … فأتذكر فيروز … وأتذكر “نحن وفيروز” مقالك الذي قادني ذات يوم إلى عالمك … وأتذكر إنسانيتنا المنسية … وأشعر برغبة في الكتابة … في البكاء … وأشياء أخرى.

    من دون شمع

    سيدتي … “نحن والرحابنة” أحد مقالات الراحل ممدوح عدوان، الذي اكتشفت معه بعضاً من أسباب حبنا الفطري لفيروز، لا أدري إن حدث وقرأته؟! إنه ليسعدني جداً مشاركتك به. هل ثمة طريقة لإرساله إلكترونياً إلى موقعك كملف مرفق؟
    alaws240@gmail.com

  4. basima said,

    لا أعرف إن كانت الكتابة تعيدنا إلى إنسانيتنا أم لا
    أعرف أنها طريقة لفهم النفس ومواجهة المشاعر
    لهذا لا أكتب كثيراً..
    لهذا أهرب منها هي الأخرى إلى أن تقتنصني في لحظة صعبة
    أستسلم فيها لإغرائها
    أغمض العين وأفتح القلب
    وأدع ما في روحي يخرج من مسامات جلدي
    وحين أنتهي يتباطأ النبض
    ويسترخي القلق
    وأصاب بالحزن.

    هل هكذا نعود إلى بشريتنا؟
    هل الحزن هو علامتنا الفارقة؟

    فيروز عطبتنا يا أوس
    هي السبب في أننا مخلوقات هشة هكذا
    ربتنا
    وأفسدتنا
    دللت حواسنا وروحنا
    وتركتنا في عوالم لا تشبهها
    لا تشبهنا.

    “راحت وما تركت عنوان”

    لولاها لما عشقت الطبيعة حد الشغف هكذا
    ولما تيمتني رائحة أشجار الجوز في بواكير الصيف هكذا
    لولاها ما عرفت معنى مفردات مثل: وطن.. بحر.. زنبق.. شال.. عود.. “سجرة”

    لولاها لما سكنني الحنين إلى مدينة/ضيعة فاضلة
    أشرارها أخيار أساؤوا التصرف بطيش طفولي وعادوا إلى رشدهم نادمين.
    حكامها طيبون ساذجون، أو طيبون حكماء
    غير أنهم طيبون دوماً
    وأخيارها معمدون بالبساطة والمرح والشهامة
    يكتبون أسماء أحبابهم على “الحور العتيق”
    ثم ينهون الآخرين عن سؤالهم عنها خشية “ضوعة الطيوب”
    أطفالها يلهون بطائرات “ورق وخيطان”
    ويلعبون “تحت السما الزرقا”
    يصورون “على الحيطان”
    ويوقعون “المزهرية”.

    الكتابة.. والبكاء.. وأشياء أخرى؟
    تلك هي كل الحياة يا أوس
    ماذا أبقيت؟

    بكل الود

أضف تعليق