قديمة قديمة ، كثيرة جدا و متنوعة جدا ، مغطاة في معظمها لتحمي روادها من حر الصيف و أشعة شمسه و برد الشتاء و مطره و رياحه، يرجع معظمهاإلى ما قبل العهد العثماني ، و ما أنشئ بعده تلبية للحاجات الاقتصادية و الاجتماعية للمدينة أقيم في غالبه خارج سور المدينة القديم ، بينما جددتالأسواق القديمة الرابضة داخل السور ، و أعيد بناؤها على أنقاضها كالعنقاء تنهض من رمادها .
تميزت أسواق دمشق القديمة بتخصصها ، فلكل سلعة أو صناعة أو حرفة سوقها الخاص ، و تتقارب أسواق الصناعات المتقاربة من أسواقها ، فسوقمجلدي الكتب قرب سوق باعة الكتب و قرب سوق الوراقين ، و كانت تقع كلها ، و حتى زمن قريب ، إلى الغرب من جامع الأموي ، تحت اسم المسكية قبل أن تنتقل حديثا كل هذه الصناعات إلى منطقة الحلبوني في مركز المدينة . في حين تراجع دور المسكية إلى بيع الكتب القديمة و بعض كتب طبخ و تنجيم وأوراد و كتب يصعب تصنيفها تضم كلمات أغاني العمالقة جنبا إلى جنب مع كتب الأوردة و الأدعية الدينية ، إضافة إلى المسابح و أشرطةتسجيل للمصحف المرتل ، و بعض عطور مختلفة الألوان في قوارير مختلفة الأحجام ،تكفي نقطة واحدة منها لنشر رائحتها ، القوية الغريبة و إنماالمتشابهة في السوق كله .
تضم كل سوق حوانيت ضيقة ، تكاد لا تتسع لصاحبها ، بينما يقف الزبائن في الطريق خلف دكة خشبية تفصلهم عن البائع ، و تحدث زحاما يضيق بهالسوق الضيق المعتم أساسا .فيجد المارة صعوبة في شق طريقهم وسط أكوام الزبائن المتراصين أمام الدكاكين المختلفة .
الظلمة هي السمة المميزة لكل حوانيت الأسواق ، ففي سوق مغطى ، و حانوت لا يحتوي أية نافذة تدخل نور الشمس ، يضطر الباعة إلى استعمالالإنارة الكهربائية معظم ساعات النهار .
و لكل سوق ما يميزه ، لا يحتاج الزائر إلى رؤية السلعة التي يعرضها السوق ، فهو سيعرفها بحدسه و حواسه الأخرى.
بعض الأسواق تعلن عن بضائعها بالصوت ، ففي سوق ا لنحاسين و الحدادين ، تسمع أصوات الطرق على المعدن فيها قبل أن تدخلها ،و يغرق الهواءالمكتوم في دقات متناثرة يحار السامع كيف يرتبها في ذهنه لتخرج على شكل موسيقي متوازن .
و في سوق القباقبية ، تصلك رائحة الخشب قبل أن ترى عينك القباقيب الملونة و المختلفة المقاسات و الألوان ، المزينة بمسامير ذهبية ، بعضهامطعم بأصداف ، و بعضها الآخر مزركش برسوم لأزهار بسيطة اختارت أو اختيرت لتزهر على خشب مقطع ، في حين ترك بعضها الأخير عاطلا عن كلزينة ، مكتفيا بأداء دوره العملي بتواضع لا يخلو من تقشف .
سوق الهال ، يعلن لك عن بضائعه بقوة تصل حد الوقاحة ، رائحة الأسماك و اللحوم و مخلفاتها تزكم الأنوف ، تكاد تقنعك بالعزوف عن ولوجالسوق . بل حتى قد تزين في عينك التحول إلى شخص نباتي لا يتعاطى اللحم و لا من يلتحمون ، و ستفكر مرتين قبل أن تأتي مرة ثانية إلى هذا المكان، و قد تكسب الأسواق الحديثة الرهان و تجتذبك إليها رغم ما تفتقده من ميزات السوق الرئيسي . فعلى الرغم من الرائحة فإن ما يشفع لهذا السوق طزاجة محتوياته و تنوعها ، إضافة إلى سعرها الزهيد الذي يقارب سعر الجملة ، مقارنة مع ما تضمه البقاليات الحديثة و السوبر ماركات التي تضيف إلى الأسعار مبلغا لا يستهان به كي تغطي تكاليف أناقتها المبالغ فيها و نظافتها الموعودة .
أما البزورية ، فإن تهت عنها فأنت تستطيع الوصول إليها بملاحقة روائح العطارة و البذور و الزعتر و الحناء و الزهورات المجففة ، و الشموع ، والسكاكر، و البهارات .روائح يشكل تمازجها نموذجا فريدا من رائحة عبقة تكاد تكون مرئية و ملموسة لفرط شدتها و قوة حضورها ، تنقل الزائر إلى أجوائها الخاصة و تضعه وجها لوجه أمام أحاسيس مختلطة يصعب معها تحديد الزمان الحاضر ، و تخطفه إلى بعض أزمنة مضت ، فإن حاولالتملص من سحرها سكنت أنفه واعدة بمحاولات أخرى إن هو تجرأ على ولوج ساحة تأثيرها بمقاومة أضعف .
أما عن المعروضات ، فبعضها شهير بما يكفي لأن تعرفه عن بعد ، و لكن بعضها الآخر يفاجئك بغرابة شكله و اسمه الموضوع على لائحة كرتونية ،منتجات لا تعرف هل هي من أصل نباتي أو حيواني ، أو مستقدم من كواكب أخرى لحاجة ما في نفس بائعها و شاريها ، و تكاد تصدمك لافتات وضعتبخجل على جدران المحال تعلن عن فوائد يثير بعضها دهشتك من جرأة محلات تقليدية كتلك التي تمر من قربها على التعرض لموضوعات على هذهالدرجة من الخصوصية و الحميمية . لا حياء في الدين ، و لا حياء في الطب ، و لا حياء في التجارة على ما يبدو .
في الحميدية ، السوق الأشهر ، و محلاته المتباينة بين القدم و التداعي ، و بين الأناقة و الحداثة التي تجرأت فمدت رأسها تختلس النظر على ما حواهالسوق من تحف و بضائع ، يزدحم الطريق المتوسط الاتساع بزبائن من كل حدب و صوب ، في حين افترشت منتصف الطريق بسطات مختلفة لباعة لا محلات لهم ، يعيدون فرد و عرض بضائعهم بعد مرور كل دورية جعلت السلطات مهمتها الوحيدة منع هذه التجارة المرتجلة من الرواج ، في حينتنشغل الأرصفة على الطرفين بما أخرجته المحال من أحشائها من سلال و معروضات ضاق بها المكان ، و سعت إلى عرض نفسها لمزيد من الترويج والإعلان المجاني .
أما في الأسواق المتفرعة عن الحميدية و التي يحظى كل منها باسم خاص به ، تلك الأسواق الأصغر و الأضيق و الأكثر تعرجا و بالتالي الأكثر ازدحاما، يخرج الباعة لدعوة السيدات إلى الشراء ، كل يقف على باب دكانه يردد على مدار اليوم الجملة الشهيرة : اتفضلي يا ست ، اتفضلي يا خانم.فيمحاولة تقليدية للتغلب على المنافسة النشطة المحيطة ، محاطا بتبرم السيدات من الدعوة الجهرية للشراء في حين لا ترغب معظمهن سوى في الفرجةو الجس و المساومة على الأسعار .فيتجاهلن الدعوة متابعات سيرهن فرادى و جماعات ، تطير عيونهن و لا تحط إلا حين تلمح إحداهن ما يسترعيالانتباه ومن ثم التوقف و التحديق بنظرة خبير .و النتيجة ، صار اسم السوق ” سوق اتفضلي “، و غلبت الجملة الشهيرة المزعجة على اسم السوق الأصلي .
أسواق من الكثرة و التعدد ما يجعل حصرها مسألة ليست بالسهولة المتخيلة :سوق الصوف ، سوق القطن ، سوق الحرير ، سوق الجوخ ، سوق العبي ( العباءات ) ، سوق المناخلية ، سوق الخياطين ، العصرونية ( لبيعالأدوات المنزلية بكافة أنواعها ) ، سوق الجزماتية ( بضائعها واضحة من اسمها ) سوق القاشاني ، سوق الصاغة ( لبيع المصوغات الذهبية )،سوق الخجا ( لبيع المصنوعات الجلدية ) سوق الأروام ( لبيع البضائع المستعملة ذات الوضع الجيد ) سوق الهال . سوق السلاح ، سوقالصابون ، سوق باب الجابية ( و فيه تباع المواد الغذائية من سمن و زيت و سكر و خلافه من مواد ) .لعب تخصص هذه الأسواق في الزمن الماضي دورا هاما ، فإلى جانب تسهيل أمور البيع بالنسبة للزبائن عن طريق عرض البضائع و الصناعاتالواحدة في سوق واحدة ، سهل التقارب هذا على شيوخ الحرف سيطرتهم على أبناء حرفهم و مراقبة جودة عملهم و مدى اتقانه من جهة ، و يسرعليهم توصيل أوامر و طلبات السلطة إليهم من جهة أخرى .
تقوم بين الحوانيت في كل سوق منشآت كانت ، و لا زال بعضها ، يؤدي خدمات للسوق و زبائنه ، فنرى دكاكين الحلاقين ، و المدارس القديمة ، والخانات ، و الجوامع ، و باعة عصير ، و باعة مثلجات . بالإضافة إلى بعض حمامات جماعية و مقاه و مطاعم شعبية كانت في ما مضى تقوم بدورحيوي في عالم السوق القائم بذاته ، و اتخذت لنفسها في الزمن الحديث دورا سياحيا آخذ في الاتساع باطراد واتضحت معالمه في السنوات الأخيرةبشكل خاص .
عالم السوق ، عالم متميز . بيع و شراء ، ضجيج و حركة مستمرة .مرآة تعكس الحياة الاقتصادية و الاجتماعية للمدينة ، فيها تشهد بعينك نماذج من كل سكانها ، و من كل زائريها و سياحها .صحيح أن هذه الأسواق قد فقدت الكثير من أهميتها بنشوء الأسواق العصرية الحديثة ، إلا أن الأسواق القديمة استطاعت أن تبقي لنفسها على دور هام لا يمكن تجاوزه و الاستغناء عنه .و اخترعت دورا سياحيا و ثقافيا يوازي ما فقدته لحساب الحداثة و العصرنة .
مجرد أنثى said,
2009/08/17 في 5:08 م
كلما قصدت دمشق
لا بد لي من جولة تحية تقديرية لهذي الأماكن
أشعر بعشق يربطني بها
و كأنها تحكي قصصا و اساطير
مودتي
basima said,
2010/06/03 في 12:33 ص
شكراً لعبق مرورك رورو
محبتي