حكي من فوق الأساطيح

2009/08/23 at 2:42 م (شام)

و

هذا الصباح رن جرس الباب في وقت أبكر من المعتاد، فتحت لأجد امرأة لا أعرفها ..

صباح الخير

صباح الخيرات .. تفضلي

إن شاء الله عامر .. دخيل عينك ، بتعرفي وين بيت راتب شرباتي ؟

لا والله، وين دلوكي ؟

قالوا لي بهالبناية ..

و الله يا عيني صار لي عشر سنين ساكنة هون ما سمعت عن بيت الشرباتي ..


خرجت جارتي  الساكنة في البيت المواجه سمعت آخر كلماتي بينما كانت تقفل بالمفتاح باب بيتها فقالت :

عن بيت الشرباتي عم تسأل الأخت و قلتي ما سمعتي ؟

إي و الله يا خالة  أم حسان .. بتعرفي وين ؟

زمت ابتسامة ساخرة لاحت على شفتيها وقالت :

في الطابق الرابع .. فوقك تمام ..

شكرتنا المرأة و صعدت الدرج فسألتني أم حسان :

كيف ما بتعرفي بيت الشرباتي ؟!  سامية، ما عرفتيها ؟؟

(بدهشة ) : سامية ؟؟!!.. آه .. إي عرفتها .. مو  هي العروس اللي تفركشت  بشاحط بدلتها و كسرت رجلها ليلة عرسها ؟

أيوه .. هي بذاتها ..

و العريس من بيت الشرباتي ؟

(  متنهدة ) : إي لكن .. ( و استدركت  باستنكار )  ما شفتي أوراق النعوة على كل حيطان البناية لما مات عمها أبو جوزها ؟

ها .. إي و الله .. من عندهم كان  صوت القرآن لكن ؟؟ قلت لحالي أكيد في عزاء بالبناية ، والله  مالي خبر .. مسكينة يا نادية ..

سامية..  سامية ..

إي إي ..  مسكينة يا سامية .. عروس ورجلها مكسورة.. و فوقها مات عمها أبو زوجها .. قليل العزاء شو بده  ركض وتعب  ؟

( بدهشة ) : لك أي عروس و أي عريس و أي رجل مكسورة ؟؟ إي المخلوقة صار لها متجوزة سنة كاملة .. رجلها طابت .. و حبلت و جابت توم صبيان .. و جوزها مات أبوه من أربع شهور و حماتها رح تخلص العدة  وأنتي عم تقولي عروس ؟؟ ( ثم قالت بلهجة غريبة ) خاطرك حبيبتي ..

وين خالة ؟ خلينا نكسبك على فنجان قهوة.

(قالت بامتعاض شديد لا يخفى على امرأة ) لا .. غير مرة .. ان شاء الله دايماً عامر.

أدركت أنني “خبّصت” .. أمعنت النظر .. يا ساتر .. السيدة في مثل عمري  تقريباً .. لكنها بحجابها ولباسها الغامق تعطي انطباعا بعمر أكبر .. أحببت أن أصلح الموقف فقلت:

أكيد هه .. شي يوم هاتي الصبايا و تعالوا لعندي .. الله يخلي لك ياهم .. يا حبيباتي شو مذوقين ومربايين.. بشوفهم بالأسانسير دائماً .. كلهم أدب وكمال ..

وقفت المرأة  للحظة و كأنها تفكر .. ثم استدارت عائدة إلي ووقفت في مواجهتي  وقالت :

عن أي صبايا عم تسألي يا عيون خالتك أم حسان.. إي صار لك عشر سنين جارتنا .. ما حلك تعرفي أنو اسمي هدى  و أني مو مجوّزة و ساكنة لوحدي من يوم ما أمي عطتك عمرها قبل خمس سنين  ؟

( أجبتها بذهول)  كمان أنتي أمك ماتت ؟؟!!

بعد الظهر .. حزمت أمري و ذهبت لزيارة عمتي أم نصوح في بيت جدي القديم في الميدان ..

حول البحرة ومع فنجان القهوة أحسست بالألم لحال سيدة مسنة تعيش وحدها في بيت كبير كهذا .. ابنها الوحيد هاجر إلى كندا . تزوج و استقر هناك وبقيت وحيدة في عمرها هذا ..

أحببت أن أسليها فحكيت لها ما جرى معي صباحا .. ضحكت عمتي بصوت مرتفع و هزت رأسها ..

قلت لها :

عمة ؟.. ما بيضيق خلقك لحالك بهالبيت الطويل العريض ، و الله هي مو عيشة ؟؟

ابتسمت وقالت:

قومي الله يرضى عليكي، هاتي صحن البذر من النملية، وتعالي نطلع على السطح ، هنيك الهويات  ظراف  كتير ..

أحضرتُ ما طلبت مني إحضاره من أشياء و أنا أفكر في هذا البيت الذي عشت فيه طفولتي إلى أن استقل أبي و أمي ببيت وحدهما .. بعدها انتهت طفولتي ووئدت  في تلك الشقة المنعزلة عن العالم المحيط بها .

جلسنا على كرسيين منخفضين من قش وخشب .. و لا صوت سوى صوت فصفصة البذر وهديل الحمام الذي “يكشّه” ابن الجيران كعادته كل مساء ..

إي عمة .. شو أخبار أهل الحارة ؟؟

كلهم مناح وبيسلموا عليكي ، على طول بيسألوني عنك و عن أولادك ..

مين عم تشوفي من الجيران ؟؟

عم شوفهم كلهم، واللي ما بشوفهم  بتوصلني أخبارهم  أول بأول. الصبح بنشرب القهوة سوا، كل يوم ببيت، والمسا حسب التساهيل. لو اتأخرتي شوي كنت رايحة لعند خجو، عم تعمل بسملة لابنها حتى ينجح بالبكالوريا و بدنا نساعدها فيها، وبكرة في مولد ببيت عمك أبو سعيد .. هاد المولد نذر عليه لما يجي الصبي لابنه سعيد ، بدنا نروح من الصبح نساعدهم بلف صرر الملبس.

(ضحكت من قلبي ضحكة أحسست أنها غريبة على أذني ) طيب، اللي عم تشوفيهم فهمناها،و اللي ما بتشوفيهم؟ بتقري أخبارهم بالفنجان؟

( بضحكة ماكرة ) : لا، الستيتية بتحكي لي  ..

تنهدت بعمق وأشارت بعينيها إلى أسطحة الجيران وقالت :

شوفي عمة .. شايفة الأساطيح كلها على مد عينك والنظر ؟؟ هي كلها حكايات منشورة على حبال الغسيل ..

ضحكت ثانية حين رأت الدهشة تطل من عيني ..

شوفي يا ستي ..  السطح اللي معرشة عليه دالية العنب هو  أسطوح خالتك أم بكري، شوفي الغسيل على الحبال بتعرفي أنو كنتها ولدت و جابت صبي ، الحبال مليانة بقطع غسيل صغيرة وكلها لونها يا أبيض يا سماوي.

و السطح اللي بعده لحليمة زوجة الحلاق، الظاهر لسه حردانة  ببيت أهلها ..الغسيل اللي على الحبل كله قطع رجالية ونشره مبهدل، هالغسيل والنشر مو نشر ست بيت.

و السطح اللي عليه الغسيل “الملعوص” ، هذا سطح بيت الحجي أبو عمر .. و هذا نشر كنته الجديدة، شوفي شو شرنّة و شرمة ،  بدها تكسير إيدين على هالغسيل و النشر

شايفة الصبية اللي عم تحرك مربى المشمش بالصواني ؟؟ هي بنت ابنها للخياطة باهية .. شايفة شو كبرانة و حليانة؟ ما بتتذكريها شو كانت مدهرنة بصغرها ؟ طلعت رشقة و فالحة لأمها .. عليها نشر غسيل بيمزع العقل، والظاهر، والله أعلم، أنو جابر ابن أبو عبده الوسطاني حاطط عينه عليها ، كل يوم بلاقيه بالليل سهران عالأسطوح لوش الصبح ، و عند على بكرة بلاقي ملاقط غسيل شي فيها فلة شي فيها إسوارة ياسمين واقعة بالغلط على مشرقتي.

بقى عرفتي الستيتية اللي بتجيب لي كل الأخبار ؟؟

عدت إلى بيتي مساءً،  وأنا أفكر في عمتي وجيران الحارة، وفي نفسي وجيراني.

حزنت لأنني لم أستطع بناء علاقات حميمة وإنسانية معهم.

علاقات دافئة تختلف عن تلك التي نقيمها مع جيران لا نعرف أسماءهم ولا نقول لهم صباح الخير إلا باستعجال.

تمنيت في نفسي أن أفعل شيئاً مختلفاً منذ الغد وأن أبدأ أولاً بخالة أم حسان ….

لا لا لا لا لا .. شو خالة؟ و شو أم حسان ؟!!! ولكن.. شو كان اسمها ؟؟!!

6 تعليقات

  1. راجح said,

    هههههههههههههههه

    لا لا لا لا لا .. شو خالة؟ و شو أم حسان ؟!!! ولكن.. شو كان اسمها ؟؟!!

    ( شو هالورطة هي؟)

    بس والله أحلى حكي من فوق الأساطيح اسمعتو بحياتي, هادا مو حكي , هي فراشات عم تتراقص فوق زهور كلماتك, هي ريحة مية الفيجة المنكهة بماء الزهر, هي صحن الرز بحليب وعلى وشو ورقه خضرا من النارنجة, هي صوت طئطئة البزر وهوي عم يتحمص بالمقلاية عند العصرية بأرض الديار. 

    هل تصدقي بأن قلبي ارتعش عندما قرأت بين كلماتك (الميدان), ثم زاد الخفقان ا أكثر عندما ذكرت ( أم نصوح وأم بكري ) !!!!!!
    باب المصللى وسيدي صهيب ثم حارة القرشي وزقاق الموصللي والعسكري وجامع منجك والمصطبة وحمام الدرب والبوابة, انا من هناك ياسيدتي. أما أم نصوح وأم بكري فهي نفس الأسماء لأقارب والدتي -رحمها الله- وكثيرا ماكانت تردد هذه الأسماء أمامنا.
    باسمة:
    لك كل الود والأحترام.

    • basima said,

      وأنا من هناك أيضاً يا عزيزي
      من الميدان والسويقة وقبر عاتكة وخان المغاربة 🙂
      من الحارات الضيقة المتعرجة وحنفية الفيجة
      من طوالع بردى وبحرة التكية السليمانية
      من النعومة وصحن المسبحة وسطل العرق سوس
      من الياسمين والشب الظريف والمجنونة 🙂
      من الطفولة
      من الشام

      كل المحبة يا راجح

  2. حافظ said,

    لا أفهم لم أعشق الشام .. أنا جزائري و كلما قرأت أو شاهدت الشاميين ازددت ولعا و حبا لهم… ربما لأن جدي سماني حافظ الأسد (مع اختلافي مع عقيدته) أو ربما لأن الله عز وجل بارك فيمن حول القدس الحبيبة ، على كل حال تحية و سلام إليكي و من خلالكي لكل بيوت الشام الشريفة.

    • basima said,

      وسلامي إليكم يا حافظ في الجزائر الحبيبة
      حبكم للشام معروف
      ونحن الذي نحمل شيئاً من دم جزائري نصفه عربي ونصفه أمازيغي..
      نعرف لماذا نعشق كلنا الشام

      أهلا وسهلا

  3. الدكتور طاهر سماق said,

    إنه السهل الممتنع
    سردٌ لطيف لحديثٍ عادي .. لكننا نقرأُ فيه روعة المكان والزمان والعِبَر

    • basima said,

      أهلاً دكتور طاهر
      هو حديث عادي
      لهذا هو قريب من النفس في رأيي
      لأنه عادي مثلنا.

      سررت بهذا المرور

أضف تعليق