روبابيكيا..

2009/08/23 at 3:20 م (حكايا لا ترويها شهرزاد)

                                        روبابيكيا 1

 

استيقظت صباحا على صوت بعيد .. صوت مألوف ..

و لأنني بين اليقظة و المنام .. لم أعرف هل هو صوت يحمله إلي الهواء ؛

أم أنه مجرد استعادة لصوت  قفز فجأة عن أحد رفوف الذاكرة المغبرة و راح يتراقص في خيالي ..

نظرت إلى ما حولي بدهشة .. أين أنا ؟

شيئا فشيئا تذكرت أنني في بيت أبي .. نظرت إلى الساعة وجدتها السابعة صباحا

يا فتاح يا عليم .. هذا يعني أني لم أنم سوى ساعتين اثنتين فقط ..

لمحت التقويم .. اليوم : السبت .. التاريخ : الثالث من آب

عاد الصوت مرة أخرى .. و بدا لي أقرب .. و تذكرته

هو بائع جوال ، أو بالأحرى  تاجر جوال ينادي بطريقته الغريبة التي عرفته بها منذ طفولتي

يقول : يللي عندو ………………………………………. للبيـــــــــــــــــــــــــــــــع

و ما بين النقاط  الكثير الكثير من كلمات .. لم أفهمها يوما..

 

قفزت بسرعة من سريري .. هي فرصة  ..

سأبيعه الخزانة الصغيرة القديمة الرثة التي تحتل مكانا أهم منها في غرفة الجلوس ..

تمنيت أن أبيعها دون أن أضطر لتفريغها من محتوياتها ..

فجدتي كانت تعتقد أن : ” كل شي أحسن من بني آدم ” و هكذا راحت طوال عمرها تحتفظ بكل ما لا يفسده  الزمن .. أكياس .. علب فارغة .. زجاجات فارغة .. دفاتر قديمة .. أشياء كثيرة مكانها الطبيعي هو سلة القمامة لكن .. إيه .. ذهبت جدتي و بقيت الأشياء .. تماما كما خمنت هي .. كل شي أحسن من بني آدم ..

 

 

خرجت بسرعة إلى الشرفة و أنا أنتظر اقتراب الصوت بشكل يجعل رؤية صاحبه ممكنة ..

و حين صار على بعد يمكنه من سماع صوتي .. ناديته و أشرت إليه أن يصعد .

 

فتحت الباب .. و انتظرته .. وصل و كأنه قادم من القطب الشمالي عبر فتحة في جدار الزمن .

ملابسه شتوية ونحن في آب ، حررررررر!!! ..

لم أطل التفكير في مظهره فلدي ما يشغلني عنه .

 

يعطيك العافية.. عندي خزانة قديمة لا أحتاجها .. تشتريها ؟

خليني شوفها بالأول .

دقيقة من فضلك.

وذهبت لأسحبها بما فيها، هي صغيرة على كل حال و يمكنني أن أتدبر أمرها

و يبدو أن الرجل أراد أن يستغل الوقت الضائع  في غيابي ورفع صوته بالنداء على عادته و راح يقول :

يللي عندو طناجر .. يللي عندو سجادة .. يللي عندو راديو.. يللي عندو حنفيات .. يللي عندو كنبايات .. يللي عندو كراسي .. يللي عندو طاولات .. يللي عندو همـوم .. للبيع ..

 

همــوم ؟؟؟

و… للبيـــع ؟

عدت إلى الرجل  ساحبة ورائي الخزانة بما فيها .. سألته بدهشة و أنا ألهث :

هموم ؟؟!!

إي .. هموم ..

بتشتري  هموم ؟

قال مستغربا سؤالي و كأنني أتحدث عن أكثر الأشياء بديهية في العالم

–     إي نعم.. ما سمعتي بشاري الهم من قلب صاحبه ؟؟ أنا هو . و راح يتفحص الخزانة بنظرة خبير ثم قال

– كم تريدين ثمنا لهذه الخزانة ؟ هي لا تستحق .. سأعطيك فيها خمسين ليرة .

طيب. قلتها بشرود ، ثم سألته

كيف يعني بتشتري الهم من قلب صاحبه ؟

مثلما أشتري أي شيء آخر .. ما رأيك ؟؟  خمسين ليرة ، موافقة ؟

خلص .. موافقة ..  بس بدي أسألك .. و ماذا تفعل بالهموم التي تشتريها ؟

أبيعها طبعا ، تجارة  مثل كل تجارة ..

ما دام هيك .. عندي لك  شغلات كتيـر للبيع .. رحأفتح لك الصرة ..

هاتي لنشوف .

همممممممممم، طيب .. عندي أولا هم العيش والعيشة و اللي عايشينها بتشتريها ؟

حاكيني عربي ..

يعني هم المعيشة .. الشغل .. الرزق .. المشاكل اليومية .. هيك شي ..

حطيها على جنب .. كم تريدين فيها ؟

أنت الخيّر و أنا بستاهل .. لن نختلف .. المهم تشيل و تخفف ..

طيب .. و شو عندك كمان ؟

عندي هم الآخرة و الموت و الحساب و العذاب .. تأخذه ؟؟

فكر قليلاً وقال:

–      هاتيه .. كل قمحة و لها كيالها ..

– عندي كمية كبيرة من الهموم العامة .. ما رأيك  ؟

– متل شو يعني ؟

– يعني .. فساد .. تخلف .. تبعية .. فوضى .. على كل ضرس لون ..

– هاتي عمي هاتي ..

– عال العال .. طيب …عندي كتير من هموم الحب .. تأخذها ؟

– هي جديدة .. كيف يعني ؟

– يعني على قول فيروز : همّ الأحبة إن غابوا و إن حضروا ..

– ما لها سوق عندي ..

– أنت خذها و أنا براعيك فيها .. بتكسب  ثواب ..

– طيب ، حطيها فوق البيعة .. لسه في شي ؟

– باقي عندي شوية وعي و شوية ثقافة حمّلوني هم أكبر منهم … بتعمل  معروف و بتاخذهم ؟؟ مو كتار .. وماااااا بدي ياهم ..

– اتكلي على الله ..

– بتاخد هموم إنسانية ؟؟  عندي تشكيلة آخر صرعة .. تمييز عنصري على قتل جماعي على انحرافات..

– صارت البيعة ثقيلة .. بس الله بيعين .. عندك شيء كمان ؟

– لا .. كفاها الله اليوم .. كم صار الحساب ؟

– كلمة واحدة ؟؟ 500 ليرة ؟ شلوني معك ؟

– الله ييارك لك .. يجعل سوقها نار و راغبها حمار !!

– هاتي لشوف .. ساعديني بضب كل هالبضاعة .. استفتاحة مباركة .. إي عمي .. لازمك هموم تشتريها؟ ما بيصير تعيشي بلا هموم بالمرة .. عدم المؤاخذة .. مو أحسن ما الناس تحكي عليكي ؟ بكرة بيقولوا عنك مجنونة .. أنا أنصحك لله ..

– الحق معك ..أمممممممممم .. عندك هم ” وين بدي روح بكل هالمصاري ؟ ” بسمع عنه  كتير و  عمري ما شفته . أو مثلا هم ” وين بدي ألبس كل هالفساتين ؟” ، أو هم ” الخوف من السرقة على أي شيء يستحق السرقة”، أو هم ” وين بدنا نصيف هالسنة ؟”

– لا و الله .. إي وين عايشة خانم ؟ هالأنواع   مفقودة من  زمان .

– إذن خليني فكر بالموضوع  كم يوم و ارجع عليي ..

 

و هكذا .. وضع على الأرض كيسا فارغا .. و راح يقذف بداخله كتل الهموم دون تمييز .. و كلما وضع  شيئا خف جسدي .. و ارتاحت روحي .. و حين انتهى ،  كنت قد تحولت إلى فراشة  تبحث عن نافذة تطير منها ..حمل الكيس على ظهره و قال :

 

عمو ؟؟ شو معك مصاري ؟

كتير .. ليش؟

هاتيهم كلهم الله يرضى عليكي ..

أتيته بكل ما معي من نقود و أعطيتها له بسرور، أضاف:

الاسوارة  و الخاتم و السلسال .. إذا ذهب هاتيهم ..

نفذت كلامه دون نقاش .. أخذ كل شيء و حين هم بالرحيل .. استدركت بسرعة و قلت :

عمو .. الخزانة .. خليها الله يخليك .. بدي حط فيها فساتين اللعبة ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍.

 

أغلقت الباب وراءه ..

ذهبت لأغسل وجهي .. ماذا جرى.. هل كبرت المغسلة أم صغرت أنا؟ تطاولت على رؤوس أصابعي لألمح وجهي في المرآة.. من هذه الطفلة التي تنظر بدهشة؟

لم أهتم كثيراً..هناك كرة تقفز على أرض روحي.

لمحت أمي تحضر الفطور .. أخوتي الصغار يلعبون

أغنيات فيروز الصباحية تنطلق من الراديو المفتوح ..

تقول :

هيه يا أم العين الكحلا اللي بنحب غنانيها

كنتي بهاك الغرة أحلى .. و حياتك رديها

 

و شريطة خضرا

و ارقص يا شعرها

ما كانت أحلى ؟؟ إي و الله

الدنيي بتضحك لها ؟ إي و الله

تعوا تا نقلها .. يالله يالله ..

 

يا ربي.. متى ستسمح لي أمي بإطالة شعري ؟

انتبهت إلى أنني أغرقت منديل أمي  الملون بالماء حين كنت أغسل وجهي..

كان مربوطا حول رقبتي كشال مصطنع ..

خلعته و أمسكته بين يدي و رحت أنفضه و أغني بصوت منخفض خشية أن تسمعني أمي :

يا نشّاف نشّف لي … و الماما بتقتلني

و البابا بيدبحني  … و الخاروف بينطحني

 

يا ربي…

لا يزال المنديل مبتلا ..  هززت كتفاي .. لا يهم ..

فتحت خزانتي و أخذت منها فستاني المزهر ..

ربطت المنديل حول خصري .. هو طويل .. سيشبه ذيل فستان العرائس ..

تسللت من البيت  على رؤوس أصابعي ..

قطفت بعض أزهار الشب الظريف الصفراء و الحمراء و البيضاء من مدخل البناية

و من شجرة الياسمين أخذت بعض زهرات  و عروق وضعتها مع البكلة التي تحجب غرتي عن عيوني

نزلت إلى الحارة .. ندى و سوسن  سبقتاني إلى هناك ..

أمسكنا بأيدي بعضنا .. و صنعنا دائرة مغلقة ..

رحنا ندور و نضرب الأرض بأقدامنا و نحن نغني بصوت واحد :

نحنا الثلاثة سوى … متل عمود الهوا

وحدة طويلة … وحدة قصيرة … و وحدة بتقصع لورا

 

و قصعت لورا ..

سقطت على رأسي ..  ضحكت صديقتاي .. و بكيت ألما و خزياً ..

خاصمتهما و مددت لهما لساني .

جريت بسرعة  إلى البيت .. دموعي تسيل على وجهي.. و اختبأت تحت سرير أمي

و بقيت أبكي حتى نمت دون أن أدري

 

استيقظت صباحا على صوت بعيد .. صوت مألوف ..

نظرت إلى ما حولي بدهشة .. أين أنا ؟

شيئا فشيئا تذكرت أنني في بيت أبي .. نظرت إلى الساعة وجدتها السابعة صباحا

لمحت التقويم ..اليوم : السبت .. التاريخ : الثالث من آب

عاد الصوت مرة أخرى .. و بدا لي أقرب .. و تذكرته

صوت ينادي  : يللي عندو ………………………. للبيـــــــــــــــــــــــــــــــــع

 

قفزت من سريري إلى الشرفة مسرعة

انتظرت حتى رأيت الرجل العجوز و ناديته و سألته :

عالعافية  عمو . عندي مخ عطلان لا بيزمر و لا بيدق ، لا بيهش و لا بينش ،  … تشتريه ؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

5 تعليقات

  1. راجح said,

    بخمسين ليرة بدك تبيعي خزانة ستك؟ الله يسامحك, طيب والذكريات والعشرة ماالها ثمن؟
    ذكرتيني بعربية البندورة تبع فيروز وقت نزلوها بالمزاد العلني للبيع, (سوا ربينا, وسوا مشينا, وسوا قضينا ليالينا).

    هذا من أجمل ماقرأت ياباسمة, وكأن حوارك مع تاجر الروبابيكيا يجري أمامي لأكون شاهدا على هذه البيعة.

    بالأواعي العتأ ياصحون, بالأزاز المكسر ياصحون, بالصرامي العتيئة ياصحويوووووووون. بتتذكري هالصوت؟؟؟

    تقبلي تحيتي

    • basima said,

      راجح العزيز
      يحدث أن تأخذنا دوامات الحياة وتبعدنا عن قلوبنا أحياناً
      إلى أن نعود إلى الأطفال في داخلنا، حينها تسترد الأشياء قيمتها الحقيقية

      يسعدني مرورك المستمر من هنا، ويسعدني أن يعجبك ما تقرأ

      ملاحظة: طبعا بتذكر هالصوت ولووووووووو

  2. hassan h said,

    أذكر أنك يوماً حسدتني على روحي الطفولية
    ولكني أراك اليوم طفلة
    وأي طفلة

    الباسمة

    جميل حقاً أن أراك هنا بحلة جديدة

    حقاً

  3. ziadoof said,

    لو كنت مكانك لهممت بوهب كل هذه الاشياء وهبا وليس بيعا
    دونما انتظر هذا البائع الخجول الذي سايرك الى هذا الحد
    لكن .. لا ادري ما كانت ردة فعله عندما طلبتي منه ان يشتري ” دماغ عطلان …الخ”
    عموما …عندما تزعجنا الاشياء فلدينا القدرة ان نبيعها بثمن بخس
    او اذا كنا نريد تصريفها بشكل اسرع فربما نبيعها من دون ثمن “هبة”
    كما جرى لفلسطين والقدس والعراق “والشنكاش”
    شكرا باسمة

  4. Haneen said,

    بالمصادفة
    أوربما…بمصادفات متتالية
    وجدت مدونتك
    قرأت بعضا مما فيها
    ولفت نظري جمال حسك..وروعة فكرك
    فاسمحي لي بالمرور هنا لأشكرك حقا على ما امتعتني به
    وعلى رأسه هذه القصة الجميلة
    التي لن تستطيع شهرزاد أبدا…مجاراتك بمثلها 🙂
    دام سحر حرفك!!

أضف تعليق